أفكار وآراء

الواقع المسيحي الصادم: حقيقة فجّة ومُرّة!

كتب جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة في صحيفة الجمهورية

في أحاديث منفصلة مع رؤساء سابقين للجمهورية، وبطاركة ومطارنة من سائر الطوائف المسيحية، ثمة هاجس واحد ورئيس يقضّ مضاجعهم، وهو مستقبل الوجود المسيحي في لبنان في ضوء المسار الانحداري لوضعهم الديموغرافي، وغيابهم عن موقع التأثير الفعلي في الدولة والقطاعات الإنتاجية، وتراجع نسبة الشباب الذين يعيشون على أرض وطنهم في ظل الهجرة المتنامية التي لم ينصرم حبلها يوماً بعد يوم، وقصور المعالجات التي تحاول بعض الجهات الدولية والمحلية وعلى رأسها الكنيسة، عن إيجاد الحلول التي من شأنها إيقاف هذا النزف المدوّي.

ويتفق الرؤساء السابقون للجمهورية والبطاركة والمطارنة، على أنّ ما زاد في الطين بلّة، أنّ التطوّرات الأخيرة في سوريا وما تتعرّض له الأقليات في هذا البلد، وسّعت رقعة الخوف والإحباط لدى المسيحيِّين الذين ثبِتوا فيه طوال العقود الماضية، وهناك خشية حقيقية من أن يكون مصيرهم مشابهاً لمصير مسيحيّي العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. وإنّ هذا الأمر ولّد انطباعاً مؤسفاً، وهو أنّ الديكتاتوريات التي سادت في المرحلة السابقة في عدد من بلدان الشرق الأوسط، كانت هي الضامن لأمن الأقليات ووجودها، والأكثر احتراماً لحرّياتها الدينية. كما لاحظ هؤلاء، أنّ عدوى الهجرة المسيحية من هذه البلدان انتقلت أيضاً إلى أقليات إسلامية مثل العلويِّين والدروز، وإن كانت إرادة الثبات لا تزال ماثلة فيها حتى الساعة من دون التكهّن إلى متى ستبقى هذه الإرادة قائمة لديها.

 

على أنّ التحدّي الكبير، في رأي هؤلاء، هو أن تعمد الكنيسة إلى وضع استراتيجية شاملة ومستدامة، من خلال إنشاء مؤسسات جديدة إقتصادية واجتماعية وحسن إدارة الأوقاف، وذلك للحفاظ على هوية الأرض وإيجاد الآليات المرنة الكفيلة بربط الإنسان بأرضه، وتوفير المقوّمات التي تعينه على جبه التحدّيات. وإنّ الغياب المسيحي المدوّي عن إدارات الدولة والانخراط في أسلاكها العسكرية والأمنية، والرغبة المتزايدة في الهجرة لدى فئة الشباب، تُشكّل السبب الرئيس في تحوّل هذا المجتمع إلى شيخوخة محتمة تقوده إلى الاندثار.

وثمة مَن يرى أنّ المسؤولية لا تقع على الكنيسة فحسب، بل على الأحزاب المسيحية التي لا تزال تكابر وتعتبر أنّ نزاعاتها وتجاذباتها، وحروبها الإلغائية بعضها ضدّ بعض، أجدى من الالتقاء للتصدّي إلى الخطر الذي يدقّ أبواب المجتمع التي تنشط فيه، وتتصرّف وكأنّ شيئاً لم يحصل، وأنّ «الأمور على ما يرام يا سيدتي المَركِيزة». لا ليس كل شيء على ما يرام، وليس من الحكمة في شيء التصرّف كالنعامة، واعتبار أنّ «الدنيا تهتز ولا تقع». ويستطرد هؤلاء في سرد الوقائع على الأرض، مستندين إلى أرقام ومعطيات لا تُخطئ، مبنية على وثائق دامغة وإحصاءات دقيقة.

ويرى أحد الخبراء في علم السياسة، أنّ الطريقة التي تتعامل بها الأحزاب المسيحية – كل من موقعها – حيال بعضها البعض وحيال الآخرين، تدلّ إلى مكابرة وإنكار للواقع، والمطلوب أن تبادر إلى تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها بحق نفسها والآخرين، بعيداً من الحساسيات والنكايات والتسابق على حيازة مكاسب محدودة لن تجديها نفعاً، وإن أجدت فإلى حين. ويُضيف هذا الخبير، أنّ الإتكال على المنتشرين قد يكون مفيداً، لكنّ واقع الإنتشار المسيحي اللبناني في العالم حالياً لا يَشي بدَيمومته رافعة لِمَن لا يزال في الوطن الأم، وذلك لأسباب كثيرة، منها تناقص القدرة وتقادم عهده في البلدان التي هاجر إليها، وضعف الشعور بالمسؤولية وحِسّ الارتباط مع مرور الزمن. ومن هنا، على الأحزاب والقوى المسيحية أن تنظر بموضوعية إلى واقعها الراهن، وتقديم المشتركات المصيرية على أي اعتبار آخر. لأنّه ليس من الممكن تصوّر الشرق خالياً من التنوّع الديني، وخصوصاً من الوجود المسيحي في المنطقة التي شهدت انبثاق رسالة يسوع الناصري الذي وُلدِ وعاش وصُلِبَ وقُبِرَ وقام حياً من بين الأموات على أرض فلسطين.

إنّ ما يحصل يصبّ في خدمة الأصولية الصهيونية وهيمنة إسرائيل، والأصوليات الإسلامية، والنزعات الإتنية والعنصرية على تنوّعها، وسيادة الأحادية.

لا يمكن أخيراً قبول تبدّل هوية الشرق والتضحية بها في بازار النزاعات الدولية والإقليمية من أجل حفنة من المكاسب الآنية والتوجّهات الأنانية. وإنّ اعتبار الفيدرالية أو التقسيم البديل عن الواقع السائد، هو رهان على الوهم، وفلاحة في الريح. هي حقيقة فجّة ومرّة في آنٍ. لكنّها الحقيقة.