المرتضى من جبيل: لا ننسى وجع الناس فإن أنينهم بلغ مسامع السماء ولم يبلغ مسامع كثيرين على الأرض
قال وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى: “ليست الثقافة آدابًا وفنونًا فقط، بل يدخلُ في بابِها أيضًا معرفةُ كيفَ يُساسُ الناسُ بالمحبةِ البانية. لم تنشأ ثورةٌ ما في أيِّ رقعةٍ من الأرض، إلا استنادًا إلى محرِّكاتٍ ثقافية تؤسِّسُ لتغيير المفاهيم القائمة نحو الأفضل.”
واضاف: “فإذا كان من شأن أي ثورة أن تستبقيَ المفاهيم وتكتفي باستبدالِ الأشخاص، فإنها تكون استنساخًا لا علاجًا للواقع المشكوِّ منه. ولعلَّ من أشدِّ المفاهيمِ سوءًا على عيشِنا الوطني، عندنا في لبنان، اعتمادَ الطائفية معيارًا وحيدًا في مقاربة الشؤون العامة. فإنها بمقدار ما تعبر عن جمال التنوع الذي نحن عليه، تصبحُ سببًا للخراب إذا أغرقْنا في الأخذ بها على حساب المصلحة العامة للوطن والمواطنين..”
وتابع: “أقول هذا والشعب يرى ويسمعُ شعاراتٍ كثيرةً تطلَقُ من هنا وهناك، ليس لها موضعٌ تُصْرَفُ فيه سوى سوقِ المزايدات الطائفية التي أفلست تجارتُها. فتعالوا معًا إلى العمل البناء بالتشاور والتوافق لحلِّ جميع المسائل الوطنية العالقة، وعلى رأسِها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعيد النصابَ المفقود إلى الحياة الدستوريةِ المعطلة. ولا ننسَ وجعَ الناس، فإن أنينَهم بلغَ مسامع السماء، ولم يبلغ مسامعَ كثيرين على الأرض.”
كلام الوزير المرتضى جاء خلال حفل تكريمي للفنان التشكيلي بيار شديد لمناسبة مرور أربعين يوما على رحيله، على مسرح ثانوية راهبات الوردية في بلاط – جبيل بحضور المطران ميشال عون والنواب سيمون ابي رميا وزياد حواط وسليم الصايغ وقائمقام جبيل وفعاليات ادارية وبلدية وثقافية.
وفيما يلي كلمة وزير الثقافة:
“خاطبَ اللونَ فنُّه… والحجر
كتب بالريشةِ وبالإزميل،
أقامَ في لوحاتِه وتماثيلِه حوارًا فكريًّا بين المضافِ والمضاف إليه،
فكان كاسمه صخرةً شَديدةَ الثبات، عليها بُنيَ هيكلٌ فسيحُ الإبداع متنوعُّ المنجَزات.
بيار شديد، الذي جمعتنا اليوم ذكراه، علامةٌ فارقة في مسيرة الفن اللبناني، ميزتُه أنه طوَّعَ الصعبَ وروَّضَ المادةَ، لا لأجلِ الجمال الفنيِّ الكامن فيها فحسب، بُغيةَ إزالةِ الزوائدِ وتقديمِ الأثرِ صافيًا منها، كما قال النحات الفرنسي الكبير أوغست رودان (Auguste Rodin)؛ بل من أجل أمرٍ آخرَ أجلَّ وأخْلَد، كان قد استحوذ على شغفِه من البداية حتى النهاية، هو أن يضيفَ شيئًا ما إلى هذه الحياة. ذلك أن سيرته الذاتية تنبضُ بما يدلُّ على إدراكه معنى أن يكون متميزًا، لا أن يكرر فعلَ السابقين، وبخاصةٍ في مضمار الرسم، هكذا أصبحت الحياةُ عنده مضافًا والفنُّ مضافًا إليها، يجرُّها هو خلفَه بعاملِ التجربة الإبداعية، بل يسيران معًا رفيقين في هذا الوجود.
السرُّ أن تحيا كمن ليس يموتْ
كالشَّجَرِ المعمَّرِ الصَّموتْ
لا أن تمرَّ في الحياةِ مرَّا
أَتْفَهُ ما تفعَلُه المرورْ.
وعلى هذه القاعدة، لم يمرَّ بيار شديد في حياته الشخصية ولا الفنية مرورًا عابرًا، بل كان الإبداعُ عنده انتماءً معرفيًّا إلى الغد، كأنه يفتشُ عن سرِّ خلوده في ما كانت تصنعهُ يدَاه؛ أو كأنه يستعيد أسطورة طائر برجِ الفيدار التي كتب عنها سعيد عقل في كتابه الشهير “لبنان إن حكى” متحدِّثًا عن تجليات خلود الروح عبر المحبة الفائقة. ولعلَّ بيار شديد، في حقيقته الثقافية النقية، واحد من رادةِ هذه المدرسة، فإنه كان يرى أن الانكباب على الفنِّ بمحبة وثيقةٍ ومعرفة عميقة، هو الذي يفضي، أولًا وأخيرًا، إلى البقاء.
هذه المحبةُ لموهبته دفعَتْه إلى الطواف في أرجاء المذاهب الفنية المتنوعة وبخاصةٍ في الرسم، فبنى بين قواعدِها ودلالاتِها تشابكًا وتشابهًا، حتى استخلص منها لنفسه هويةً فنية مستقلة الملامح، مهما تكثُر حولها التحليلاتُ وتتنوَّعِ الآراء، تَبْقى لصيقةً بهذه البيئة الجبيلية الصامدة التي يسند أبناؤُها ظهورَهم إلى الجبل اللبناني الراسخِ في مشرقِ الشمس، ويطلقون رؤاهم حرة في فضاء البحر من جهة مغربها، فيصيرُ الثبات والانطلاق رصيفين متقابلين من طريق واحدة تسير عليها بألوان واثقةِ الخُطى حكاياتُ الإبداع اللبناني المتعددةُ الفصول والعناوين.
وهنا لا بدَّ لي من ترداد أمرٍ أوقنُ به يقينًا كاملًا هو أن الآداب والفنون تمشي من صعيد إلى صعيد، وتطير من فضاءٍ إلى آخر بأقدامٍ وأجنحةٍ لا تُرى. وبخاصةٍ في هذا الزمن الذي وحَّدَ الكرة الأرضية ويسَّرَ سبل الانتقال لكلِّ شيءٍ في كلِّ مكان، حتى بات تبادلُ الأفكارِ والمناهجِ والثقافات، وتأثُّرُ بعضِها ببعض في وقتٍ سريعٍ جدًّا من دلالاتِ العصرِ الواضحة. لكنَّ تاريخ الحضارة الإنسانية يؤكد أن الآداب والفنون في كلِّ مجتمعٍ وأمّة، تصنعها العوامل المقيمة أكثرَ من تلكَ المسافِرة، فلا يعيش أدبٌ ولا فنٌّ مسترزِقًا فقط من الفتاتِ الذي يتساقطُ عن موائدِ الثقافات الوافدة، بل ينبغي له أن يغتذي أولًا بنِتاجِ أرضِه وبيئته، حتى يتمَّ نَماؤُهُ ويخضَرَّ عودُه، ثم أن يستكملَ ما يحتاجُ إليه من دراسةِ الإبداعات الأخرى ليغتني ويتنوّع. وهذا ما سار عليه بيار شديد، في حياته الشخصية وفي عمله الفني، فتشبَّثَ بإيمانه بربه وتسلَّح بحبه لناسه ووطنه، وتعلَّق بمقدساته، وهل لأحدٍ أن يقدم دلالةً أوفى على هذا، من أيقونة القديسة رفقا التي رسمَها بقلبه وأصابعه فباتت الآن في كلِّ كنيسةٍ وبيت؟؟
أيها الأحباء
ليست الثقافة آدابًا وفنونًا فقط، بل يدخلُ في بابِها أيضًا معرفةُ كيفَ يُساسُ الناسُ بالمحبةِ البانية. لم تنشأ ثورةٌ ما في أيِّ رقعةٍ من الأرض، إلا استنادًا إلى محرِّكاتٍ ثقافية تؤسِّسُ لتغيير المفاهيم القائمة نحو الأفضل. فإذا كان من شأن أي ثورةِ أن تستبقيَ المفاهيم وتكتفي باستبدالِ الأشخاص، فإنها تكون استنساخًا لا علاجًا للواقع المشكوِّ منه. ولعلَّ من أشدِّ المفاهيمِ سوءًا على عيشِنا الوطني، عندنا في لبنان، اعتمادَ الطائفية معيارًا وحيدًا في مقاربة الشؤون العامة. فإنها بمقدار ما تعبر عن جمال التنوع الذي نحن عليه، تصبحُ سببًا للخراب إذا أغرقْنا في الأخذ بها على حساب المصلحة العامة للوطن والمواطنين. أقول هذا والشعب يرى ويسمعُ شعاراتٍ كثيرةً تطلَقُ من هنا وهناك، ليس لها موضعٌ تُصْرَفُ فيه سوى سوقِ المزايدات الطائفية التي أفلست تجارتُها. فتعالوا معًا إلى العمل البناء بالتشاور والتوافق لحلِّ جميع المسائل الوطنية العالقة، وعلى رأسِها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعيد النصابَ المفقود إلى الحياة الدستوريةِ المعطلة. ولا ننسَ وجعَ الناس، فإن أنينَهم بلغَ مسامع السماء، ولم يبلغ مسامعَ كثيرين على الأرض.
في يوم بيار شديد لنجددِ العزم على استعادة الوطن على تمسّكنا بالعيش الواحد ونؤكدِ الثقة بمستقبله. والسلام.”
وكانت كلمات لكل من الدكتور لويس صليبا، الشاعر الدكتور جورج زكي الحاج، وعائلة الراحل القاها نجله المهندس سيمون، وتم عرض فيلم وثائقي.