لبنان على عتبة العصر الإقطاعي الاقتتال و التفجير والتدمير وتفتيت ما سَلُم
لبنان على عتبة العصر الإقطاعي
الاقتتال و التفجير والتدمير وتفتيت ما سَلُم َ
المؤرخ و الكاتب السياسي د. حسن محمود قبيسي
الإقطاع هو خضوع المرء – طوعًا بداية أو كُرهًا فيما بعد – من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية إلى الكنيسة أو إلى رجل أسمى منه منزلة في مقابل تنظيم اقتصادي وحماية عسكرية.
في غياب دولة الرعاية والحماية وتقهقرها أمام السلطة الغاشمة محلية أو أجنية ، عرفت المجتمعات الإنسانية و الناس بمفردها و بجمعها العصر الإقطاعي بما له وعليه .
فبعدما تعجز السلطات المركزية عن حماية الأجزاء النائية عن عواصمها؛ و بعدما يعجز المرء عن حماية أسرته – وهو رأسها ومنها – و تأمين مستلزماتها الحياتية ، يعرض أرضه على أمير قوي أو على متنفذ معروف للاحتماء به من ظلم الولاة وعسف الجباة واعتداء الصعاليك، ويطلب إليهم نظير ذلك حمايته و إطعامه وأسرته، دون أن يتحسب لما بعد ؛ ويرتضي أن يعيش عيشة الأقنان الذين تنازلوا عن حرياتهم نتيجة لظروفهم المعيشية و حفاظًا على أمنهم ؛ نظير حمايتهم و إطعامهم و إيوائهم .
في العصور الإقطاعية، نظام و سلطة وحكم بقواعد و أساليب والتزمات جديدة، دون حقوق متوازية : أقام الأسقف أو الإقطاعي المحلي نظامًا في مقاطعته وهيئة للدفاع عنها، وظل محتفظاً بقوته ومحاكمه الخاصة ؛ فيصير له نوع من «حق الحماية» عليهم ويتحولون إلى أتباع له وفلاحين في الأرض التي غدت أرضه، أو يتسلمها بعضهم منه ثانية على سبيل الإقطاع فيصيرون تنَّاء ( (مفردها تانئ ويقابلها الدهقان بالفارسية) وهم المستوطنون المستقرون في الأرض من أصحاب الضياع.
وللإقطاعي أن يبيع الأرض وأقنانها فيتاجر بالأرض وبشرها دون أي رادع خلقي
أما على صعيد الحكم والسياسة، فعُرف عصر الإقطاع بكثرة الفتن والحروب، في ظل عدم وجود مبدأ ثابت لتداول السلطة غير القوة والاغتصاب.
ونحن في لبنان على مسافة خطوتين من تلك الحالة الكاريثية وما قد تحمله من اقتتال و تفتيت .
*****
إلى التاريخ ، لا لنكرر ما وقع فيه الأقدمون ؛ بل للمقاربة والاتعاظ وتفادي الكوارث و المآسي من قتل و تدمير و تهجير ، وانهيار كيانات وطنية وأوطان وتفتيتها .
وقد مررنا بمثل تلك التجربة في أكثر من مرحلة من تاريخنا ، واحدة على نطاق جغرافي ضيق ( 1840- 1861 ) ، حين أحبط آل الخازن إصلاحا ت السلطنة العثمانية وساقوا و الكنيسة أتباعهم الفلاحين الموارنة إلى اقتتال ضد الفلاحين الدروز ومقاطعجيهم ، و آخرها كانت الحرب الأهلية ( 1975-1990) . وقتها لم يكن لأصحاب القرار الإقليميين -مجتمعين و آحادين – مصلحة في تغيير وضعية لبنان « الكبير » فكان «اتفاق الطائف » نسخة منقحة – لا متطورة – عن بروتكول 1861 ، وبقي الحال كما كان إلى أجل مؤجلٍ لا غير مسمى .
فماذا عن هذه حالنا اليوم ؟!
*****
في لبنان اليوم سلطة -لا دولة- جباية عاجزة عن تأمين مستلزمات الحياة أمنًا و معيشة و رعاية .
وعاجزة عن حماية ناسها و شعبها ، فذهبت كل فئة إلى الحماية الذاتية و تدبير أمورها الحياتية .
مكونات و طوائف و أعراق في جغرافيا شكل منها الانتداب الفرنسي عام 1920 « دولة لبنان الكبير »، وفيه رواسب من صراع المقاطعجية الطوائفيين وارتباطاتهم بالأجنبي استقواء على جيرانهم الذين صاروا مواطنييهم .
عدو صهيوني طامع محتل منذ عام 1923 ، في دورات عدوانية متكررة .
حكم مستبد يتوارثه الأبناء و الأصهار و الأحفاد، و يتناتشه مقاطعجية سموا – تلطيفًا- رؤؤساء وأمناء عامون ومراجع دينية و «مارونية سياسية » و « إسلام تقليدي »، وعلى يمين الأولى « القوات اللبنانية » وعلى يسار الثانية « القوى التقدمية و اليسارية» بمسمياتها و جبهاتها . و أزلام و تنَّاء ينادَون رفاق و إخوة نضال. فساد مستشري و هدر ومحسوبيات و مستزلمين وطوائفية و مذهبية ، بعد عقود من الحرمان والاستقواء بالخارج بذريعة الخوف من المحيط .
وفيه ،كل دافع عن لبنان وحمل راية الدفاع عن لبنان وأهله وشعبه ، بمواجهة عدولأهله و ناسه و مجتمعه.
واجه بعضهم الصهيوني وآخر الفلسطيني والثالث السوري، في دورات اقتلاع واقتطاع وابتلاع فاشلة . وتقاتلوا فيما بينهم .
والمحصلة فوضى عارمة: قتل وتدمير و تهجير وتجويع و تجهيل ، وضعتنا على أعتاب نظام إقطاعي ما أسرع ما سنتخطى أعتابه إلى مواخير عصر المقاطعجية الجدد.
الكل في حاجة إلى متطلبات واحتياجات بديهية ، ولا تكون الإ بالاستقرار ، ولا تحققه إلا دولة قوية عادلة ، وإن تقاعست فالطريق إلى المنتهى ، عصر الإقطاع الجديد بفتنه واقتتال اللبنانيين وتفتيته وتقسيمه وعودة إلى زمن ضعف السلطنة العثمانية ، زمن « كل من أيده له » .