الموجة النسوية الرابعة: بين وسائل الإعلام الجديدة والذكاء الاصطناعي
بقلم د. سالي حمود
بين التغيرات المتتالية في عالمنا، يبقى المشهد الإعلامي مهيمناً على المجالات الإقتصادية والإجتماعية، والفكرية حتماً، لما له من قدرة على حمل تلك التغييرات عبر القنوات المتعددة التي ولّدها متأثراً بالتطورات التكنولوجية.
ويبدو واضحاً تأثير وسائل الاتصال الحديثة، والخطابات الإعلامية التي تحملها، التي بدورها تمهّد المجتمع لنظام قيم متجدد، قد يتناسب في بعض الأحيان مع التطورات، وفي أحياناً أخرى يتعارض معها. ولكن من المهم جداً الاعتراف بأن اكتساب الحق في أن يُسمَّى المجتمع مجتمعاً حديثاً، يتطلب مراجعة النظام القيمي بشكل دوري. وفي هذه المراجعة نصيب وفير للمرأة التي لم ينصفها التاريخ بعد، وحتماً لا يفعل الحاضر، ولكن الأمل في أن ينصفها المستقبل.
لابد من الاعتراف أن النساء انتزعن بعضاً من حقوقهن عبر الزمن، ولو أتت تلك الحقوق في كثير من الأوقات استجابةً للتغيرات الاقتصادية التي أفرزتها كل من الحروب العالمية والتكنولوجيا. فالحروب، لاسيما الحرب العالمية الثانية، أجبرت الرجال على مشاركة النساء في مجال العمل لتُعَوِّض الأنظمة الإقتصادية عن النقص باليد العاملة، ثم تراجع القدرة الشرائية. وهنا بدأت موجات النسوية بالبروز والتقدم وبدأت النساء حربهن مع المجتمع الذي وضع النظام الأبوي راعياً وسجَّاناً لها في عدة مجالات. وبعد عبور ثلاث موجات أساسية في الحركة النسوية عبر التاريخ ، والتي كان فيها محطات أساسية نجحت فيها النساء في انتزاع البعض من حقوقهن، مثل الحق في التعليم والحق في المشاركة في الحياة السياسية. ولو أن ممارسة تلك الحقوق لايزال منقوصاً في معظم المجتمعات، خصوصاً تلك التي تكرِّس النظام الأبوي راعياً للمرأة تحت راية الدين ومؤسساته.
واليوم، تشهد الحركة النسوية تطورات تتزامن مع بروز أدوات حديثة في الاتصال تحمل ملامح الإعلام الجديد ما أدى إلى تغيرات في مشهدية مسار النضال النسوي. تحولات عدة شهدتها المجالات من دون استثناء، مع ظهور التقنيات التكنولوجية التي اجتاحها الذكاء الإصطناعي. وأمام هذا الجديد نقف لمعاينة التحول الذي طرأ على الحركة النسوية، و نطرح سؤالاً شغل بال الكثيرين والكثيرات:” هل نحن نشهد بروز الموجة الرابعة من الحركة النسوية؟”
بحسب بعض المصادر والدراسات بدأت الموجة النسوية الرابعة عام 2012 مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي التي ساعدت على دمقرطة العملية الاتصالية، إذ منحت المستخدمين/ات مجالاً للمشاركة التفاعلية الفورية، والأهم منحتهم/ ن القدرة على إيصال الرسالة الخاصة بهم/ن من خلال المنابر الخاصة بكل فرد. وشهدنا بروز دور تلك الوسائل في الاحتجاجات والدورات وغيرها من الحركات السياسية، كما حصل في “الربيع العربي” وغيره من الحركات السياسية والإجتماعية حول العالم.
أدى ذلك إلى تحولات في الخطاب العام الاجتماعي والسياسي حول العالم، وطبعا تحولات في الخطاب النسوي في هذا الزمن. وبات التركيز خلال هذه الفترة على مواضيع تتعلق بالحقوق الجنسية والإنجابية تلك التي تركز على حرية النساء الجسدية مثل الحرية الجنسية وجرائم التحرش الجنسي والإغتصاب، وحقوق الإنجاب والطلاق بالإضافة إلى مواضيع أخرى تسعى لتحقيق المساواة الجندرية.
وقد استطاعت مواقع التواصل الإجتماعي في كثيرٍ من المناسبات،كسر حاجز الصمت عن تلك القضايا.
مثلاً فيما يتعلق بالتحرش الجنسي وفضح المتحرشين أصبحت من المواضيع الأكثر تواجدًا على مواقع التواصل الإجتماعي خلال الفترة الماضية، مما ساعد على تخطي الخجل الإجتماعي في كثير من المواضيع كما فعلت حملة Metoo# التي تخطت الحدود الجغرافية وانطلقت إلى مجتمعات أخرى تعيب النساء. فتحت تلك الحملة المجال أمام حملات مشابهة، مثل #فضح_المتحرش أو #expose_a_harraser التي امتدت إلى عدة شخصيات عامة في لبنان اتُّهمت بالتحرش الجنسي .
من الملاحظ أيضاً أن الخطاب العام النسوي حول حقوق الصحة الجنسية والإنجابية قد مكّن من كسر العديد من التابوهات حوله، إذ بدأت المنصات تتحدث بحرية حول الحرية الجنسية للمرأة وتغيير علاقتها مع جسدها، لاسيما حول موضوع العادة الشهرية وتحدي الخرافات الاجتماعية حولها. وهذا أمر بقي تابوهاً في المنطقة العربية. في هذا الصدد لعبت منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفايسبوك وانستغرام دوراً واضحاً في نشر المبادرات النسوية عبر الإنترنت وتوسيع نطاق الحوار حولها، وهذا بهدف زيادة الوعي لدى النساء، و تحطيم الصور النمطية حول عدة قضايا. ويعد هذا النشاط والتفاعل جزءاً مهمًا من ملامح الموجة الرابعة التي لعبت دوراً أساسياً في تعزيز الوعي النسوي، بالرغم من تشكيل هذه المنصات تهديداً للحركة النسوية في بعض الأحيان لما لها من قدرة على خلق التجاذبات في مجالها العام الإفتراضي، الذي يتحول إلى المجال العام الواقعي. تلك التجاذبات تقع بين قطبين متنافرين في الآراء والسلوك، وتزيد من أرباح المؤسسة كلما كانت التجاذبات قوية.
الإشكالية هنا هي هل فعلاً تحمل “الموجة الرابعة” تأثيرات واضحة على الرأي العام فيما يخص النساء وقضاياهن؟
لابدّ من الإشارة إلى أنّ الفضاء الإلكتروني أصبح جزءًا مهماً من الحركة النسوية لأنّه يتيح للنسويات التواصل مع بعضهن البعض، وتبادل المعلومات، وتنظيم الاحتجاجات والحملات لتؤثر تلك النشاطات الرقمية بذلك على الرأي العام فيمكنها من الوصول إلى جمهور أوسع والتفاعل مع أشخاص ربما لم يألفوا الفكر النسوي بعد.
مثال على تلك الحملات، شهد العالم العربي في 6 تموز 2022 دعوة عبر منصات التواصل الإجتماعي للإضراب النسوي العام إحتجاجاً على جرائم قتل النساء آنذاك وقد شهدت هذه الدعوة رواجاً كبيراً وأثرت بشكل كبير على الرأي العام العربي تحديداً.
لقد ساهمت حملات المناصرة الرقمية النسوية بظهور “الإعلام الرقمي النسوي” وهو إعلام يركز على تمثيل عادل للنساء وقضاياهن منتقدين بذلك وسائل الإعلام التقليدية. هذه المنصات تركز على قضايا النساء تجاربهن و تعالجها من وجهة نظر نسوية.
في ذلك الصدد، تتميز الموجة الرابعة من النسوية بنشاطها الرقمي وقوة التنظيم والمناصرة عبر الإنترنت وفتح المجال للتواصل مع أصحاب التفكير المماثل ، وتبادل الخبرات ، وإيصال الأصوات المهمشة. هذا التقاطع بين النسوية ووسائل الإعلام الجديدة يمهد الطريق لاستكشاف كيف يمكن للمنصات الرقمية أن تسهل النشاط النسوي وساهم في تشكيل الحوار النسوي في ما يسمى الموجة الرابعة.
لابد من توجيه التهمة الأولى لبطل هذا العصر.. الذكاء الإصطناعي!
في ظل اجتياح الذكاء الاصطناعي لمجالات كثيرة، منها الإعلام الرقمي الذي باتت تحكمه خوارزميات الذكاء الإصطناعي، نقف عند هذه الجدلية القائمة بين الذكاء الاصطناعي والنسوية الرقمية.
ونتساءل، هل يخدم الذكاء الإصطناعي النساء في الحصول على حقوقهن من خلال تعزيز الخطاب النسوي أم أنه هو من يضع النساء في خدمته من خلال تعزيز الصورة النمطية للنساء وتسليعهن لزيادة المشاهدات والتفاعلات والأرباح؟
بالطبع، لا يمكننا تجاهل تأثير الذكاء الاصطناعي على الخطاب العام لما يعرف بالموجة الرابعة من النسوية، والتي ظهرت بوضوح في عالم النسوية الرقمية حينما فتح دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المنصات الرقمية فرصًا وتحديات جديدة للحركات النسوية في جميع أنحاء العالم.
ويمكننا ملاحظة أن الذكاء الاصطناعي من خلال خلق الخوارزميات يمتلك القدرة على رفع الأصوات النسوية وتسهيل الحوار بينها. على سبيل المثال، تسد هذه التقنيات الحواجز اللغوية وتُسهّل على النسويات التواصل والتفاعل مع بعضهن البعض، ومشاركة الموارد ، وبناء تضامن عابر الحدود، لاسيما بين النساء اللواتي يملكن خلفيات ثقافية وحضارية وخاصة الخلفيات اللغوية المختلفة، ولابد من الاعتراف أن هذا الإتصال يعزز تبادل الأفكار والخبرات المتنوعة بين النساء في مختلف بقاع الأرض من أجل تشكيل حركة نسوية أكثر شمولاً وأكثر تنوعاً. لقد تشابهت نساء العالم بفتاة إيرانية تمردت على النظام الأبوي وخلعت الحجاب، تحول تمرد الإيرانيين على حكومتهم إلى ثورة نسوية عالمية داخل عالم إفتراضي فيه مساحات مشتركة تقف بوجه أكثر المساحات عداوةً في الحياة الواقعية.
وفي حديثنا هنا، نحن لا نبرِّئ تلك الوسائل نفسها من دورها السلبي في إرساء الصورة النمطية عن النساء وقضاياهن، وتعزيز الإنحياز ضد النساء و الأقليات في التكنولوجيا، وطبعاً الفجوة الرقمية التي تترك شرائح من المواطنين خارج المجال الرقمي.
ولكننا نحاول البحث في إيجابيات وسائل التواصل الإجتماعي التي تسيطر على نواحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، علّنا نقوى على إستخدامها بدلاً من أن تستخدمنا، إذ يبدو أننا على عتبة الموجة الرابعة من النسوية في العالم، ولابدّ لنا من وضع إطار حديث للعمل النسوي في الفضاء الإلكتروني.
المصدر : no2ta.org