أفكار وآراء

بعد نصف قرن على الحرب الأهلية المدولة في لبنان: دوافع ، مسببات، مواقف، ومسلمات

المؤرخ و الكاتب السياسي د. حسن محمود قبيسي

في مراجعة ونقد ذاتي لمسيرة شعبنا على مدى مئة سنة و تزيد، و بعد خمسين عامًا على وقف الحرب الأهلية المدولة في بلادنا وعليها ، دون التخلص من دوافعها و مسيبباتها و أسبابها ، نتوقف أمام محركاتها و المقدمات والتداعيات الناجمة عنها ، لا لتراشق التهم، فلا مسؤولية مطلقة ولا نكبة أو نكسة لفئة لبنانية دون غيرها في ما نزل بلبنان من أقصاه إلى أقصاه، وإن تفاوتت النسب ، و بالتالي لا ندين مكونًا بعينه ولا نتعاطف مع الآخر، ف«الكل في الهم شرق ».
شكى المسلم من الغبن والحرمان ، حتى ضُرِبَ المثل بالتعاطي الرسمي الدوني مع جنوبي لبنان؛ فاحتج النائب جورج عقل في مجلس النواب: « يبدو أن منطقتي ( جبل لبنان ) تعامل وكأنها من أقاصي الجنوبي».
وتذرع الماروني باضطهاد كان وليد ظروفه وعصره ، ويرى في الإمتيازات ضمانات، ويشكو- كما لبنانيون- من تجاوزات الفلسطيني الذي شعر بفائض قوة بعد عقدين من الاضطهاد.
نراجع في صحوة ضمير؛ كي لا يصير مستقبلنا استمرارًا لماضينا بمآسيه ودمويته . ولقناعتنا بعد كل ما شهدت المنطقة وشهد لبنان تأثرًا و تأثيرًا؛ بما قاله رئيس وزراء النمسا الأمير كليمنس مترنيخ بعد الاضطرابات في جبل لبنان الجنوبي 1861 :
«هذا البلد الصغير الذي هو بمنتهى الأهمية … إن الأمن والأستقرار في هذه الولاية الصغيرة (جبل لبنان) لا يؤمنان الأمن والاستقرار فيها وحدها، بل حتمًا فيها وفي الجوار والشرق الأوسط وربما العالم. والعكس صحيح .»
*****
من الدوافع الداخلية : مسببات و أسباب
ومن تلك الدوافع و المسببات إلى الأسباب وما أكثرها : انحياز رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق كميل شمعون للمخططات الأمريكية بعد البريطانية منذ العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الصهيوني على مصر1958 ، والأحلاف والمشاريع الغربية .
انقلاب المارونية السياسية على إصلاحات الرئيس اللواء فؤاد شهاب الإدارية و التنموية بعد نكسة 1967 ، والصدامات العسكرية بين القوات المسلحة اللبنانية وفصائل من المقاومة الإسلامية التي عُلِقت بعد اتفاقية القاهرة 1969، وبعدها خفت الصوت الطائفي ففاز مرشحيين يساريين في انتخابات 1972،وتراجع انتشار القوى الطائفية ونفوذها .
وفي الأزمات الاجتماعية في السنوات الأولى من ولاية الرئيس سليمان فرنجية:
تظاهر عمال معمل غندور في 17 – 12 – 1972 مطالبين بزيادة أجورهم بعدما أقرتها الدولة، وتطوير
الصناعة المحلية والحد من استيراد المصنوعات الأجنبية فقمعتهم السلطة وسقط شهداء وجرحى.
وتظاهر مزارعو التبغ وأضربوا من 2- 1 حتى 24 – 1 – 1973 لرفع ثمن محاصيلهم واستلامها في مواعيدها بعدما رفضت شركة التبغ والتنباك ذلك في 2 – 12 1972 وسقط المزارعان حسن الحايك ونعيم درويش شهيدين.
وتظاهر معلِّموا المدارس آواخر آذار – مارس وبداية نسيان -أبريل 1973 لزيادة أجورهم وإنشاء كليات تطبيقية في الجامعة اللبنانية وتعريب المناهج. فحلت السلطة اللبنانية روابط المعلمين الرسميين وطردت أكثر من ثلاثمائة معلم.
وتظاهر صيَّادو الأسماك في صيدا بقيادة النائب السابق معروف سعد في 26 – 2 – 1975 ضد احتكارشركة بروتين للصيد البحري على مسافات الشاطئ القريبة ومنعهم من ذلك. فتصدَّى لهم الجيش بالرصاص الحي وسقط شهداء وجرحى في طليعتهم معروف سعد.
كان اغتيال معروف سعد السطر الأول في كتاب تفجير الأزمة 1975 – 1990.
رأى الإمام موسى الصدر في تلك الحركات والتحركات مخاضاً لثورة شعبية قادمة لا محالة؛ فأعلن قيام حركة المحرومين في 29 / 3/ 1975 في مهرجان تعمد إظهار السلاح فيه. ودحضاً لكل تفيسر خطأ حدَّد دور السلاح بين أيدي الشيعة: «إن على أبناء الطائفة الشيعية أن يحملوا السلاح في مواجهة ثلاثة احتمالات هي: تصفية المقاومة الفلسطينية والتقسيم واحتلال الجنوب. ».
متعهداً بالنضال الديمقراطي: تظاهرات – مهرجانات – إضرابات – عصيان مدني – استقالات جماعية لتحقيق حرية المواطن ورفع الظلم وتحقيق العدالة الإجتماعية الشاملة التي هي « أولى واجبات الدولة » التي عليها أيضاً « توفير الفرص لجميع المواطنيين التي هي أبسط حقوقهم » ومحاربة كل أنواع الظلم من استبداد وإقطاع وتسلط وتصنيف مواطنين. محاربة بلا هوادة. محذرًا الحكام :« اعدلوا قبل أن تبحثوا عن قصوركم في مزبلة التاريخ » .
في 6/ 3/ 1975 تسللت قوة من فدائيي «قوات العاصفة » الجناح العسكري لحركة «فتح »، وأطلقت النار فسقط ما بين (50 إلى 100) من الجانب «الإسرائيلي» ما بين جندي وضابط وجرح ما يزيد عن 150 جندي وضابط ومن ضمن القتلى العميد في الجيش عوزي يئيري أحد أكبر ضباط الاستخبارات الذي قاد عملية فردان فردان في 10 / 4/ 1973وأدت إلى اغتيال القادة الثلاثة.كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، وإلى أزمة حكومية استقال على أثرها الرئيس صائب سلام . واعترف رئيس الوزراء الصهيوني إسحق رابين في 14 – 3- 1975 بالعلاقة بين الكيان الصهيوني وبين قوى وشخصيات لبنانية : «إن لنا أصدقاء داخل لبنان سيقومون بالرد على الفدائين» . بعدها بوقت قصير رفع حزب الكتائب شعار : «تقسيم لبنان وإقامة الدولة المارونية » .
في 11 / 8/ 1975 اكتشفت معسكرات تدريب ل «الرابطة المارونية » تُخرِّج كل أربعة أيام اختصاصيين في حرب العصابات.
أيلول سبتمبر: 1975 اتفاقية سيناء وانعكاساتها اللبنانية.
*****

في الدوافع الإقليمية والدولية
صحيح أن لبنان لا ينفرد بالتنوع والتعددية إلا أنه ناسه وحدهم بين كل دول المنطقة ، بينهم من كل مذاهب الطوائف الدينية الموجودة في محيطهأ المؤمنة والملحدة ، ومن كل الخلفيات السياسية و الحزبية، وأنه الأكثر انفتاحًا- باستثناء الكيان الصهيوني- على الغرب ، ووحده يجاريه بانتقال سلس للحكم الديموقراطي وللرئاسة الأولى ، فلا أسرة حاكمة ولا حزب حاكم لمدة أطول من عهد رئاسي ،ولا انقلابات عسكرية؛ فيه ديموقراطية نسبية جعلته مقصدًا للمضطهدين مذهبيًا أو سياسيًا ، فكان الانقسام العامودي و الأفقي لناسه حول الموقف من الوافدين واللاجئين و النازحين منذ 1948 مرورًا باستقبال المصرين الفارين من انتقام الانفصاليين السوريين سنة 1961 ، إلى تموضع الفصائل الفلسطينية في جنوبه ومناطق أخرى بعد مذابح الأردن في أيلول – ستنمبر سنة 1970 . ومقصدًا للمستثمرين والمستفيدين من نظامه الاقتصادي بخصائصه وعيوبه ، ونظامه المصرفي . فصار جامعة العرب و مشفاهم ومصرفهم ومصيفهم ومقصدهم ، ومنبرًا إعلاميًا لدول عربية و أجنبية حتى قال الرئيس شارل حلو لصحافيين في مطار بيروت « أهلًا بكم في وطنكم الثاني لبنان ».
*****
تعقّدت الأمور أكثر تفاقمت الأمورمولدة أزمات تداخل المحلي فيها مع الإقليمي ، عندما حاولت بعض المنظمات الفلسطينية إيجاد ساحة بديلة عن الأردن ولها حدود مع فلسطين المحتلة، متجاهلةً الفوارق الديموغرافية بينه وبين لبنان، من حيث أن نصف المملكة الأردنية مقتطعة من فلسطين ونصف الشعب الأردني فلسطيني الأصل، وأن الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان لن يكون موضع قبول كاسح؛ نتيجة الانقسام العامودي المتجذّرحول هوية لبنان ودوره في المنطقة.
للعدو الصهيوني أطماعه المعلنة في لبنان.
النظام السوري يريد «استرجاع لبنان » الذي قام ككيان سياسي قبل نظيره السوري بأكثر من 12 سنة، بحجة
أن أراضي من لبنان كانت تابعة لولاية الشام أو ولاية حلب،علمًا أن أراضي من الجمهورية العربية السورية اليوم : كانت تابعة لولاية طرابلس أو ولاية بيروت .
والنظام في العراق يحاول إضعاف النظام السوري ، و العقيد الليبي معمر القذافي بسعى لاوراثة زعامة جمال عبد الناصر .
*****
مواقف
في 31 / 5/ 1975 وصَّف المفتي الشيخ حسن خالد الأزمة اللبنانية على شاشة التلفزيون الألماني:
«الأزمة اللبنانية ليست وليدة الساعة وإنما هي أزمة نتيجةً لتراكمات تاريخية كان يعيشها لبنان منذ الانتداب،
الذي جعل المجتمع مجتمعاً طائفياً وكرَّس الإمتيازات والحقوق لطائفة على سائر الطوائف. والأزمة هي
أزمة وطنية وليست أزمة طائفية.. وجوهرها المطالبة بالخلاص من هذا التركيب الطائفي والدعوة لبناء
دولة ديمقراطية.»
– في 15 / 8/ 1975 شنّ بطريرك الروم الارثوذكس الياس الرابع حملة على الإمتيازات الطائفية والامتيازات المارونية خاصة، وعلى الميثاق وعلى حزب الكتائب دون أن يسميه.
في 18 / 8/ 1975 أذاع كمال جنبلاط وثيقة الإصلاح الديمقراطي.
في 21 / 8/ 1975 أنذر الرئيس السادات المقاومة الفلسطينية بضرورة الانسجام مع ممارساته السياسية وإلا واجهت المشاكل في لبنان.
في 25 / 8/ 1975 شنّت الكتائب والرابطة المارونية والشاعر سعيد عقل حملة على البطريرك الماروني خريش في بلدته عين إبل نتيجة مواقفه المعتدلة.
-3/3/ 1976، في افتتاحية صحيفة « أرارات » الأرمنية :« إن الأرمن يفضلون لبنان كما هو عليه الآن ، على لبنان الذي تسيطر عليه الطائفة المارونية.»
– 15/9/ 1976: بطريرك الروم الكاثوليك الياس الرابع : «أسباب طبيعية و اجتماعية وراء الأزمة ».
المسلمات
لبنان أولًا ، لايتقدم عليه لا طائفة ولا مكون ولا فئة ولا منطقة . تقوم على تحرره و تقدمه دولة قوية عادلة ، دولة المساواة والرعاية الاجتماعية والتخطيط والرؤى الاستراتيجية ، فهي ضمانة الأمن و الاستقرار والنمو و التطور؛هذا في الداخل.
وفي العلاقات الدولية : تقديم مصلحة لبنان و شعبه على مصالح كل الآخرين ، و تمتين العلاقات مع الدول الشقيقة و الصديقة دون الانجرار إلى سياساتها ، واعتماد سياسة ومواقف الحياد دون الانعزال ، وتأييد الحقوق العادلة و حرية تقرير المصير للشعوب ، دعمًا سياسيًا و إنسانيًا لا يصل لا إلى الأسناد ولا إلى المشاركة .
صار لزامًا علينا وحقًا لنا أن نصرخ بالفم الملآن : كفى …. كفى …. كفى .