قراءة اجتماعية أسلوبية في رواية الكاتبة اللبنانية زينة جرادي “سجينة بين قضبان الزمن”
التقاط المادة الخام لإعادة صقلها وتشكيلها بأداء روائي راقٍ مفعم بالحيوية، مع الإيهام بالواقع دون الاستنساخ.
بقلم / أيمن دراوشة – قطر
بغلافها الأنيق صدرت رواية “سجينة بين قضبان الزمن” للكاتبة الروائية زينة جرادي عن دار المؤلف للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى – 2020 – وهي من القطع المتوسط وبلغت 272 صفحة.
أولًا: الملخص
تدور الرواية حول إلهام وهي الشخصية الرئيسة في الرواية، وقضيتها المركزية حيث تم تزويجها غصبًا وهي بعمر ستة عشرة عامًا، لوحش بشري، تجرد من إنسانيته، همه الوحيد النقود، حتى لو كلفه ذلك بيع ابنه الذي هو من لحمه ودمه.
العادات والتقاليد البالية، والتي ما زالت حاضرة في مجتمعاتنا العربية دون استثناء، هذه العادات التي تعدُّ الأنثى سلعة، أو كارثة ينبغي التخلص منها خوفًا من العار، حتى وبَّخ القرآن الكريم ما كان يفعله أهل الجاهلية الأولى من قتلهم للأنثى حيث قال في مواضع كثيرة ”
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
وقال أيضًا: (بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ).
تتزوج إلهام من عدنان وهي طفلة لا تعي شيئا، بعد أن فرضت عليها والدتها هذا الوحش البشري؛ رغبة منها للاطمئنان عليها بعد وفاتها، خاصة أنها تعاني من العديد من الأمراض.
ترضخ إلهام لوالدتها، بعد تهديدها بالضرب إذا لم توافق، ويتم الزواج من عدنان، وتسافر إلى دولة إفريقية حيث يعمل زوجها المختل، لتبدأ رحلة معاناتها مع العذاب، بداية من سجنها في بيت ضيق، وضربها لأتفه الأسباب، وإهانتها بشكل دائم ومستمر، وكذلك منعها من الاتصال بأهلها، وقد حاولت المسكينة مرارًا وتكرارًا أن تصلح من شأنه، علَّه يغير من سلوكه اتجاهها، لكن دون فائدة، بل ازداد حقده وتعذيبه لها عندما علم بحملها، وأيضا لم تيأس إلهام، حاولت وحاولت لعل قلبه يرق لها حتى يئست من محاولاتها.
لم يكتفِ عدنان بضربها وإهانتها فقط، بل قام بطردها إلى الشارع بعد أن جردها من ابنها كمال الرضيع.
وعندما رجته أن يرحم أمومتها ويطلقها، ويعيد لها ابنها كمال، اشترط عليها أن تحضر معها مبلغًا كبيرة حتى ينفذ، وهي لا تملك درهما واحدًا ولا حتى لشيء يسد رمق جوعها وهي الأم المرضعة.
كانت نهاية هذا الزواج مأساوية بكل ما في الكلمة من معنى، تشردت في الشوارع، والحدائق، وتعرضت لذئاب البشرية، وبشر لا ترحم ، وتبلغ الرواية ذروتها بأحداث تنافس فيها الخير مع الشر حتى تنتهي مأساة أحلام وتعود إلى بلدها لبنان.
ثانيًا: إبداع الشخصيات
تعددت الشخصيات في الرواية وتجاوزت أكثر من اثنتي عشرة شخصية، حيث حيكت تلك الشخصيات مثل إلهام وعدنان وماري وروز وريم وهند وناصر وسوزان وجوزيف وغيرهم، حيث إن لكل شخصية من الشخصيات رؤية متعمقة للجوانب النفسية من قبل الروائية زينة مما تمتلكه من خبرة واعية بالحياة، مع بصيرة نافذة بأثر تلك العوامل في توجه تلك الشخصيات وتشابكاتها.
كما وهبت لشخوصها حرية الحركة، مع قدرتها – في الوقت ذاته – على تحريكها ومراقبتها بدقة في مدى تأثر بعضهم على بعض.
لقد كان لإبداع شخصيات الرواية، هو ما ميز هذه الرواية عن بقية الروايات، فلم تسلك الروائية طريقًا واحدًا، فنجد شخوصًا تعددت أفكارها واتجاهاتها، وصراعات مختلفة فيما تنوء به من توترات القلق والخوف من المستقبل كشخصية إلهام.
ومن أهم المظاهر الذي لفتت انتباهي، هو تداخل الشخصيات وتفاعلها مع بعضها، والتناقض والتخالف له هذا أيضًا له أهميته، ومثل هذه التناقضات هي من يجعل الشخصية أقرب إلى الحقيقة مثل شخصية السيدة ريم والسيدة هند وشخصية ناصر…
وهي لذلك تؤثر في بعضها وتتطور-تبعًا لتلك التناقضات- وتشكل مجريات الأحداث التي تدور حولها الرواية.
لقد أثارتنا تلك الشخصيات التي عُرضت بشكل واقعي تماثل إنسانيتنا المعقدة، وفي وجودنا المضطرب، والذي لا يتسم بالبساطة، لكنها صور من التيه الكبير الذي نتحرك به.
ثالثًا: السرد والحوار واللغة
لقد أتاحت الرواية بسردها وحوارها المتوازنين غزارة ووفرة وإمكانات متعددة تتصل بالزمان والمكان والحوادث والشخوص، وهنا كانت الروائية حذره في تنظيم ما تختاره من بين تلك الوفرة والغزارة، فكان انتقاؤها دقيقًا حازمًا أمام تلك الإغراءات المتاحة في ساحة الرواية.
وقد تكفلت لغة الرواية بعبء السرد والحوار، فالحدث لا يروي نفسه بنفسه، ولا وجود – بالطبع – لقصة بلا سارد، كما كانت اللغة قريبة جدًّا من الشاعرية، فكانت اللغة بمثابة توأم للشعر الراقي الأصيل.
تشكل إيقاع اللغة اعتمادًا على خبرة الروائية بالموقف، فمرة تلهث اللغة في اندفاق خاطف بالجمل والعبارات، ومرة متمهلًا متأنيا، وهذا ما راوحت بينهما الروائية زينة جرادي، التي كانت في لغتها ذات حضور فائق ومميز، فهي تدرك حدود المسافات بين المتحاورين، وتعرف فاعلية المساقات، ومثال ذلك الحوار الذي جرى بينها وبين السيدة هند أو المرأة العجوز أو السيدة ريم.
وكانت قمة الحوارات ذلك الحوار بينها وبين زوجها عندما أحضرت هدية لابنها كمال، فقام بتحطيمها، وكذلك حوار المساومة عندما طردها من المنزل.
رابعًا: الموضوعية:
الروائي بخلاف الشاعر، عليه أن يتخفى كي تتحقق تلك الموضوعية المعبرة عن الكينونة الاجتماعية، فقد رأينا الكون الإنساني بعيون الشخصيات، وهذا لا يعني تغييب ذات الروائية تمامًا، فقد تغورت في باطن شخوصها، مستكشفة تعقيداتها وقلقها، مما أفاد إفادة كبيرة في العمل الروائي.
خامسًا: الرواية والعنونة
لأول مرة أرى فهرسة كهذه الفهرسة، فكل فصل من فصول الرواية احتوى على مقولة لأحد الشخصيات الشهيرة من الأدباء أو الزعماء أو الفلاسفة؛ ليرتبط ارتباطًا وثيقًا ومعبِّرًا عن حداث فصل تلك المقولات مثل: جبران ودوستويفسكي والسيد المسيح وشمس التبريزي وغاندي وبول أوستر وفولتير، حيث أعطت تلك المقولات زخمًا للرواية ومتعة وتشويق لا مثيل لهما، وهو تفرد للروائية وميزة تميزها عن غيرها.
سادسًا: الرواية والوصف
استطاعت الروائية باختزال سردها ووصفها للشخوص بإضاءة أحداث الرواية، فلم تبالغ بالصور والوصف إلا لضرورة فنية وهي بالمجمل قليلة جدًّا، فلا حاجة لسرد طويل لبيان الحالات المتصارعة، وقد أحسنت الروائية صنعًا بتطعيم روايتها ببعض الروحانيات التي تريح نفس القارئ، وليس الوعظ والإرشاد…